من أين يأتي هذا العنف؟

هذا العنف ليس مقطوع الجذور وله رائحة قادمة من الطفولة

0

فيروز العوكلي

كان في مدينتي “بطل حي”، طفل ما أن يتشاجر مع أحدهم حتى يخرج أبوه ويعلمه كيف يضرب وكثيراً ما كان يصفه “بالخواف” كلما ركض للبيت باكياً، لم يمضِ وقت طويل حتى أصبح الطفل “الخواف” شاباً قوياً يتغذى على العنف. يهاب الجميع حيه لأنه يتسكع بساطوره في الحي،  يهاب الجميع مدينته لأنه قيادي في داعش.

لكم هو سهل إبراز جبين مقطب بقدر سهولة إغلاق الباب في وجه قراءة المرتع وراء هذا العنف.

إن العنف الممارس على الأطفال له أشكال كثيرة وبات جلياً أنه لا يولّد إلا العنف، لكن ما كثر ملاحظته في مجتمعنا هو تحريض الطفل على العنف بطرق مباشرة أو غير مباشرة؛ أي أن يرجع لوالديه من شجار مدرسي على سبيل المثال، فيصرخان في وجهه أن يأخذ حقه بيده وأن لا يكون جباناً. هذه أوامر قد تبدو جيدة إلا أنها تقذف في وجهه دون محاورته ودون معرفة ما إن كان على حق أم لا، بل وإن فشلَ الطفل في الدفاع عن نفسه -ظالماً كان أم مظلوماً-  سيرافقه أبوه أو أمه لبث الرعب في قلب الطفل الآخر، هنا يصيبه نوع من الشعور الدائم بأنه على حق.

فكرة تشجيع الطفل على أن يأخذ حقه بيده دائماً دون اللجوء للتحاور، ودون تدريبه على تحديد خطئه من صوابه أو قتل ثقافة مراجعة النفس ونقد الذات  والتسامح  في وعيه؛ ستولّد جيلاً يضع العنف دائماً كخيار أول، جيلٌ لم يتربَّ على ثقافة النقد الذاتي، ويجد صعوبة في المبادرة بالاعتذار.

إذن، هذا العنف ليس مقطوع الجذور وله رائحة قادمة من الطفولة، فالسنوات الخمس الأولى هي ذروة التطور الاجتماعي والإدراكي والأخلاقي لدى الطفل، وما يحدث له وما يتجرعه خلالها سيؤثر في مصيره الذي هو في النهاية مصير المجتمع، وكما يقول فرويد “إن الخمس سنوات الأولى من حياة الفرد هي أهم مرحلة في حياته لأن خبراتها تؤثر في مستقبل الفرد والمجتمع”.

يجهل الكثير من الآباء والأمهات أهمية هذه السنوات في تنشئة الأبناء، بل بعضهم يعتقد أنهم لا يكتسبون شيئاً خلالها، وهو اعتقاد خاطئ، لأنهم سيفسرون العالم من حولهم حسبما يمتصونه في بداية تعرفهم عليه. فالطفل اليوم لم يعد ابن والديه وحدهما، وليسا أحراراً في تربيته على طريقتهما الخاصة، كما يقول بعضهم، بل هو ابن المجتمع أيضاً ومواطن المستقبل، وإن شوهت أعوام نشأته الأولى التي يتعرف فيها على العالم سيشكل خطراً على المجتمع وعلى والديه أيضاً.

إذن، هذا العنف المصطف في الشوارع اليوم ما هو إلا طفل الأمس حين كان يعود للبيت مجرجراً ثقوب بنطلونه المفضل باكياً، فيشدون عبرته من أذنها ويرشون ملح شتائمهم على جراحه. وعبارات مثل “يا خواف .. يا مضحكة” ستجعله يوماً ما يرجع للشارع بجراح غدت ندوباً في الروح، جاهداً أن يمحو وصمة الجبن التي التصقت بطفولته. هو طفل الأمس الذي لم يتدرب على التسامح في الأسرة وفي المدرسة، هو الطفل المعنف والمهان الذي كان عليه أن يشق الوجوه ليهابه الحي.

ليس لنا اليوم إلا أن نعيش في غابة من الأشواك الحادة، أو في حديقة من العشب الناعم تزينها أزهار المحبة والقدرة على الحوار ولجم الغضب. الغابة تحكمها الغريزة أما الحديقة فنحن من نصنعها ونحن من نهذب نباتها.

..

نقلًا عن هُنا صوتك