آيسكريم بالنحاس

ناوله كيساً بداخله خمسين غلافاً نحاسياً لرصاصات كلاشينكوف، إنّها عُملة الحرب

0

عندما أطلت مقدمة سيارة الآيسكريم المُتهالكة، لم ينتبه لها سوى طفل واحد من الأطفال الخمسة الذين كانوا يلعبون وسط الشارع. كانوا منهمكين في إحصاء حصيلتهم اليومية من ظروف الذخيرة الفارغة، بينما تهفهف رياح نهاية الصيف شعورهم الملساء وتصبغها بالغبار.

لقد مرّ وقت طويل منذ رأوا السيارة الصفراء المبقعة بالصدأ ومقطورتها البيضاء المزينة برسومات غير متقنة لعلب الآيسكريم.

ظل الطفل ممسكاً جالونه البلاستيكي الذي استولى عليه بالحيلة من أمه فور نفاد الزيت منه؛ جالون بلاستيكي سعة خمسة لترات استلمه أخوه الذي يكبره بثلاث سنوات فقط، من موظفي الإغاثة الدولية ممتلئاً بزيت الطبخ، لكنه الآن مليء بأغلفة الرصاصات.

كان الطفل اليقظ يجلس على حافة قطعة أسفلت هي ما تبقى من الشارع الرئيسي لمدينة صغيرة كانت إلى ما قبل عشرين سنة، سوقاً أسبوعياً للمواشي والحبوب والرمان. توقف عن العدّ ولم يحوّل نظره عن سيارة الآيسكريم التي تقترب ببطء. ظل ممسكاً جالونه البلاستيكي الذي استولى عليه بالحيلة من أمه فور نفاد الزيت منه؛ جالون بلاستيكي سعة خمسة لترات استلمه أخوه الذي يكبره بثلاث سنوات فقط، من موظفي الإغاثة الدولية ممتلئاً بزيت الطبخ، لكنه الآن مليء بأغلفة الرصاصات. أعاد ما في حجره من الأغلفة الفارغة إلى الجالون بدون عدّ، وبدون أن يحول نظره عن الباب الصغير لصندوق الآيسكريم، حيث يجلس فتى بعمر أخيه، استعداداً لتلبية طلبات زبائنه الصغار.

“سكريم.” صاح برفاقه المنشغلين بإحصاء غنيمتهم والنقود التي يمكن أن يحصلوا عليها عندما يمرّ جامعي النحاس لشرائها. توقفوا جميعاً عن العدّ فتوقفت الجلبة التي كان يحدثها ارتطام الأغلفة فوق بعضها داخل الجالونات البلاستيكية. توقفوا عن الجدال بشأن أفضلية الأغلفة ذات اللون الأحمر أم الأصفر، وحينها فقط، تمكنوا من سماع أغنية الآيسكريم ذات اللحن الحزين: “أهلا أهلا يا نانا.. يا أحلى آيسكريم”. سيطر عليهم انشداه من النوع الذي لا يستطيع أن يقاومه طفل لم يتذوق الآيسكريم منذ سنتين، كما لم يقاوموا تسلل الحسرة اليائسة إلى وجوههم؛ ليس بتأثير اللحن الحزين للأغنية، بل لأن جامعي النحاس والخردوات لم يمروا منذ أسبوع. والنقود التي حصلوا عليها في آخر صفقة، صارت في حقائب الأمهات المثقلات بتدبير لقمة العيش وغياب الآباء الطويل في جبهات القتال.

قال طفل آخر: “من معه زلط نشتري سكريم واحنا نردها له لما نبيع؟”

هزّ الجميع رؤوسهم بقنوط وعادوا للتحديق بسيارة الآيسكريم التي صارت تمشي ببطء أشد ومحاطة بجمع من الأطفال يطالبون فتى الآيسكريم بعينات مجانية. في كل الأحوال، لن ينتظر أسعد ورفاقه حتى يصل إليهم صندوق الآيسكريم المقطور ببطء شديد. وقف هو أولاً، لكنه قبل أن يتحرك نحو علب البوظة الملونة، سأل رفاقه عن تفضيلاتهم من النكهات. ضحك اثنان منهم ظانين بأنه يسخر منهما أو يمازحهما، بينما أعلن الآخران نكهتهما المفضلة بحماس: “سكريم بالرمان”، “… بالفراولة”. “خلاص، أنا شاسير أدّيها لكم، بس كل واحد يخرّج عشر فَشَق لما ارجع.” قال أسعد، ووافق رفيقاه على الشرط بحماس دفع البقية للموافقة.

كان أسعد قد استجمع ما ينقصه من الجرأة خلال الطريق نحو فتى الآيسكريم، وعندما وقف أمامه، رفع صوته عالياً لكي يتمكن من إيصاله وسط ضجيج محرك السيارة المتهالكة والمولد الكهربائي الذي يبقيه الفتى في حالة تشغيل مستمر لتبريد بضاعته. “نشتي سكريم. رمان وفراولة.” صرخ أسعد. أخرج الفتى خمس علب ووضعها في كيس بلاستيكي، وفرك سبابته على الإبهام في إشارة إلى دفع النقود. اقترب الطفل الجريء من الفتى أكثر؛ أخذ كيس الآيسكريم وناوله كيساً آخر بداخله خمسين غلافاً نحاسياً لرصاصات كلاشينكوف. تحسس الفتى الكيس وفتحه ليلقي نظرة على العملة الغريبة، لكن رفضه لها لم يُجدِ نفعاً أمام إصرار الطفل الذي لم يتذوق البوظة منذ سنتين. إصرار اضطره للنزول للتشاور معه أبيه القابع خلف مقود السيارة. تبعه الأطفال الخمسة وفي أيديهم العلب الوردية المصنوعة من البلاستيك الرقيق. لم يستوعب الرجل القابع خلف المقود أنه بصدد عملية بيع بعملة مختلفة عن التي يتداولها الناس في طول البلاد وعرضها. إنها عملة الحرب. لكن أسعد باشره بالقول: “نحنا نبيع لاصحاب النحاس ميّة فشقة بخمسميّة ريال”. ابتسم رجل الآيسكريم بطريقة لا توحي بتعاطفه مع تلك الرغبة الطفولية الجارفة بالبوظة. وعندما التفت إلى بقية الأطفال وقد شرعوا بفتح العلب، ابتسم مرة أخرى ووافق على قبول العملة الجديدة. لم يكن يعلم أن عشرات الأطفال سوف يحتشدون أمام الباب الصغير لصندوق الآيسكريم الضخم، يلوحون بصُرَر ملونة من أغلفة الرصاصات النحاسية للكلاشينكوف وأسلحة أخرى. كما لم يكن يعلم بأنه سوف يتحول خلال سنة واحدة فقط، إلى تاجر نحاس وآيسكريم في نفس السيارة المتهالكة.