لك الجنة ولنا الوطن والخراب

لم يكن الفرح مهنته، حاله حال المتعبين في وطن من حزن وأحلام من غبار

0

كان اليوم حزينًا، مات “محمد عبدالله اسماعيل يعقوب” ذو الستة عقود، كان إنسانًا تربويًا لا تفارق محياه علامات الحزن.. عاش في منزله الذي يعده “الوطن “.

 

ينام ويصحي وهو يبحث عن دم ابنه المغدور به (مالك) غادر الدنيا وهو يحتسى كأس القهر في الوطن المقتول الذي بقى منه أطلال ضيعناه بأيدينا.

 

لم يكن الفرح مهنته، حاله حال المتعبين، كلنا، في وطن من حزن وأحلام من غبار.

 

طوى اليعقوبي ورق العمر بأكبر مأساة عرفناها في المكان الذي ندعي أنه وطن باحثا عن راتبه، وعن عدل ينصفه من قتلة ابنه، وهكذا رحل عنا حزينا وترجّل باحثا عن عالم آخر تسوده العدالة والخلود جوار الأنبياء والملائكة حيث لا يظلم عنده أحدا.

 

ذات يوم ولد محمد في مدينة التربة التابعة لمحافظة تعز جنوب اليمن، وكسائر أبناء اليم: بدأ مشوار الحياة بالتعليم الابتدائي ثم الثانوي، لذا كانت طفولته على قدر من الحرمان وشظف العيش الذي تمرَّد عليه لاحقاً في الحصول على درجة وظيفة مدنية بتعز ثم نقل عمله في مجال التربية والتعليم باحثا عن أداته لمواجهة الظلم.

 

ربما عثر على تلك الأداة وهي الدرس والكلمة، علّها تفتح أمامه درباً فيزرع في جنباتها درسا للأطفال في عدة مدارس بالمنطقة تنقل فيها بالإضافة إلى أنه يجيد الشعر وكتابة المقالات، لكنه لا يرغب بالأضواء، محتفظا بكل أعماله لنفسه، وما تسرّب منها، أقل القليل، فلم يظهر ليرى النور بل احتفظ بإنتاجه الفكري في ارشيفه، بالإضافة إلى أنه كان شغوفا بالشعر الغنائي باللهجات الشعبية متذوقا وباحثا وناقدا.

 

هذا الرجل جمع حطام الأيام وأقام عزلته خلف جدار مليء بالذكريات في عالمه المسكون بالقهر ووجع القلب وغلب السنين.

 

هذا الإنسان الهادئ البسيط المتواضع بأخلاقه الراقية العالية مات حزنا وكمدا على ولده مالك الذي اقتادته جماعة مُسلّحة وقتل في تعز، فلجأ لكل أبواب العدل وهو يحمل ملف القضية باحثا عن عدالة تنصفه من قاتل ابنه.

 

غادر الدنيا البسيطة وهو ينتظر راتبه المغيب قسرا في دهاليز الحكومة منذ (526) يوما.

 

لكي تعرفه أكثر اسأل عنه شقيقه ورفيق عمره “انور يعقوب” فكلاهما من خامة النبلاء، مات وهو يحاول جاهدا البحث عن حرية وعدل ووطن آمن ليرى بلده ويتنسم بعض الحرية وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع وحيداً، ولا يملك من أسلحة التغيير إلا الكلمة فبمقدار ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية نجدها في الواقع طريقاً إلى الآخرة ولأنها – أي الكلمة – كانت دائماً إحدى أبرز ضحايا الحرب المجنونة في الوطن الكارثة، فقد كان هذا الإنسان يبكي بحرقة على الوطن المذبوح في ساحات تجار الحروب وقتلة الأرواح والآمال المشروعة.

 

في المظاهرة الاحتجاجية الأخيرة وسط مدينة التربة التي نظمها بعض أصدقاء ابنه المرحوم مالك، أراد الشباب الغاضب قطع طريق التربة تعز فرفض وقال نحن نبحث عن الحق ولا نريد الفوضى وأي عمل ينافي الأخلاق نرفضه وسأظل أطالب بالقصاص من القتلة مهما كلفني بوسائل سلمية قانونية لكنه مات قبل أن يتحقق حلمه في العدالة.

 

حياته مُشبعة بالحزن والوجع وهو بذلك لا يشبهه احدا، عاش في ايامه الأخيرة مزيجا من الألم والقهر، لأن الجروح لا تندمل بسهولة.

 

الاحلام القديمة لا تموت أيضا حتى وأن كتبنا عن موتها ورثيناها، إنها توأمة العمر، تتوارى هربا من الخيبة لتختبئ في نفوسنا فنتوهم غيابها النهائي لكنها خيبات الأمس واليوم ونحن ورثة الخيبات فها.

 

اليوم نقيم “عزاء القهر” بعد رحيلك.. فلك الجنة يا محمد و لنا “الوطن الخراب”.